الطَوْعيةْ
أحْدقَ الناسُ بشوقٍ في الغمامِ تدلَّى
كفروعٍٍ هائلةْ من عظِيماتِ الشجرْ
غازلت صدرَ الغمامِِ عليلاتُ النسيمِ
فإذا الساحاتُ نشوى بزخَّاتِ المطرْ
طابَ جوٌ كان يغلي بالمعسكرْ
فتسامت حلَّقت في الجوِِ أسْرابٌ كُثُرْ
و أطلقَ الأطفالُ صيحاتِ الحُبور
أشعلوا الساحاتِ بِِشْراً فوقَ بِِشْرْ
رغمَ شُحٍّ في الغذاءِ تبَدَّى
قِيلَ فجوةْ .. و من لسَدِّ الفجوةْ يقْدِرْ؟!
وأخيراً عادَ طابورُ الإغاثةْ يتلوَّى
بعد هجرٍ دامَ شهراً وأيُّ شهرْ؟
كانت المحبوبةْ تزهو في أوانٍ سافراتٍ
مالها اليومَ تخفَّت في تجاويفِ الصُرَرْ!!
قد تَوارتْ مثلَ بَدرٍ خلفَ أستارِ الغمامِ
فأيُّ قصدٍ بالتخفي يا إغاثةْ وأيُّ سِرْ؟
********
إصطفَّت النسوةُ كََرْهاً بطابورِ الكفافِ
تصايحنَ فعَلا الصوتُ كصرخاتِ الغجرْ
ثم ساد الصمتُ بُرهةْ .. فتساءلنَ بدهشةْ:
أدقيقٌ هو ؟.. أمِ الزيتُ توارى منذُ أشهُرْ ؟
أم الملحُ تمنَّعْ مِثلَما فَعلَ الدواءُ
أم هو الماءُ الزُلالُ ..
وأكياسٌ من المعشوقِِ سُكَّرْ؟
وفيمَ الإندهاشُ ؟ .. فالشُحُّ كالحُمَّى تفشَّى
بعدما الكُنفوي(*) بالنهبِ إندثرْ
والنهبُ نـُفــِّذَ بالنهارِ تحدِّياً
وما جرى خلفَ الأكمَّةِ خِلْسةً
بل جهرة و بجوفِ مَخْفَرْ!!
والمخفرُ المضروبُ زُوِّدَ بالعِتادِ مؤخَّرا
ويصُدُ عنهُ في أيِ وقتِ ألفُ عُنصُرْ
هذا نذيرُ شُؤمٍ للجميعِ حقيقةً
فالجوعُ دنا إذاً وفوقَ الجوعِ أخطارٌ أُُخَرْ
و زادَ من عِظََمِِ الأمورِ وسوئها
نُزوحُ أعدادٍ كبيرةْ من البشرْ
وأهلُ الإشاعةِ أطلقوا بكثافةٍ نيرانَهم
فسنَّت السلطاتُ قانوناً به حُظِر السفَرْ
قالوا إن الفَصائلَ قد أعدت جندَها
وستبدأ الزحفَ الكبيرَ على المعسكرْ
جوعٌ وخوفْ عقِبَ التشرُّدِ والضَياع؟
وا رحمتاه .. بئسَ المصير المُنتظَرْ
********
ترهَّلَ الطابورُ .. بدا كأفعى هائلةْ
وما خطت النساءُ إلى الإمامِِ ولو لشِبرْ !
زادتْ ضُغوطُ النِسوةْ واللَّهفةْ ..
فتكسَّرَ الطابورُ مِثلَ رقائقِِ الكِسْرةْ
فمنْ للجِياعِِ المُتعَبين ببعضِِ صبرْ؟
بدأ الهجومُ المستميتُ بعضَّةٍ وبضربةٍ
والكلُّ ينشُدُ حِصَّةَ الملكِ الهِِزبرْ
زادَ التدافُعُ وعلا الصراخُ مُجَلجِلاً
فتراجعَ الحُرَّاسُ خوفاً من هجومٍٍ مُستَعِِرْ
ثم تكشَّف المستورُ ..
بانَ كتلٍََّ تحتَ شمسٍ ساطِعةْ
أو كما الأصدافُ في الشُطآنِ تبدو حينَ ينحسرُ البحرْ
وا خيبتاهْ ..
ليتهُ كانَ الحليبَ أو الدواءَ
أو المِلحَ الأُجاجَ أو حتى الجرادَ المُنتشرْ !
إنه يا سادتي .. نداءٌ مُختصرْ:
إلى اللاجئين جميعِهم ..
في الريفِ كانوا أو في الحَضَرْ:
خريفُ هذا العامِ جاءَ مُبَشِّراًً
فالغيثُ دَوماً مُنهمِرْ
والخُضرةْْ قد كستِ السهولَ
والأرضُ تاقتْ للبُذورِ ..
فماذا ننتظرْ؟
الأمنُ عادَ إلى الديارِ جميعِها
فلا هجومَ على القُُرى .
. ولا مخاطِرَ في السفرْ!
أما الطعامُ فوافِرٌ..
والدواءُ مُيسَّرٌ
والماءُ يجري في البِِِِطاحِِ كما النهرْ !
كلُّ المنافعِ واللوازمِ وُفِّرِتْ
حتى الأواني والمفارشِ والسُرُرْ
هيا ألحقوا بالدُفعةِ الأُولى ..
إستقرَّت كاملاً
ندِموا على ما ضاعَ في تِيهِ الملاجِئِ من عُمرْ !
هُبّوا إلى حَزمِ المتاعِ بهِمَّةٍ
فالرحيلُ إلى الدِيارِ جماعةً وقت السَحَرْ
********
العرضُ نالَ الإهتمام
فجرى النقاشُ بقوَّةٍ
ثم إرتضوهُ وأنتشر الخبرْ
هتفَ الرجالُ وهلَّلوا وزغردت النساءْ
فتحرَّر الشوقُ المُكبَّلُ في الصدورِ من الأَسرْ
و تسابقوا إلى حزمِ المَتاعِِ وأعلنوا:
قد حانت الطََوعيةْْ ..
تبَّاً للملاجئِ والحُفَرْ !
لكن يا لوعتي ..
هل عاشت الأفراحُ يوماً في اللُجوءْ ..
أو أنزاحَ عن نفسٍٍ مُشرَّدةٍ كَدَرْ؟!
ذُهِلَ الجميعُ وغابَ وعيُ نسائِهم ..
صَُعِقوا بصوتٍ مثل سيلٍ مُنحدِرْ!
قال: نحنُ الدفعةُ الأُولى ..
من الطَوعيةْ قد عُدنا!
فتريَّثوا يا إخوتي خُذوا منَّا العِبرََْ
ألفينْ كُنا يومذاكَ أحبتي ..
حينَ القوافِلُ ودَّعتْ ارضَ اللُجوءْ..
وقت السَحَرْ
لكنَّ النصف هوى كصيدٍ بائسٍ
في كمينٍ قد نُصِبْ على مرمى حجرْ
والثلثُ منَّا صارَ عُشباً يابِساً ..
بعد الوصولِ إلى الديارِ ..
فالجوعُ كانَ وحشاً مُنتظِرْ !
الجوعُ أصبحَ واقِعاً إثرَ الإغاثةُ هُوجِمَتْ..
وبدمِ الزواحفِ أُحرِقتْ..
فأضحتْ رماداً في لَمْحِِ البصرْ !
أما السُدسُ فظلَّ ضيفاً للبعوضِ مُرابِِطًا
حين الدواءُ مع الغطاءِ تمنًّعا ..
وأشتدَّ في الليلِ المطرْ !
ومن تبقَّى منهمو عادوا معي .. يا حسرتي
فالبعض فرَّ العقلُ منه تهيُّباً
والبعضُ قد فقدَ البصرْ !
يا سادتي هي لُعبةٌ دمويةٌ
تُدارْ بحنكةٍ عبرَ الثُريَّا والصُورْ !
فأهلُ العُمومِ تسابقوا صاغوا البيان وصرَّحوا:
الوضعُ أصبح هادئاً ..
فالجيشُ كافحَ وانتصرْ
وأهل الخُصومُ نفوا البيان وأعلنوا :
َ الوضعُ مُنفلتٌ وما استقرَّ للحظةٍ ..
فالجيشُ قد خسرَ المعاركَ واندحرْ!
ونظلُ نركضُ خلفَ تصريحِ العمومِ
ثم نركضُ عائدينَ إلى الملاجئِ إثرَ ضرباتِ الخصومِ
ولا ندري يقيناً ما الخبرْ !!
العودةُ الطَوعيةْْ إذاً هيَ المحَكْ
هي ساحةُ الحربِ الجديدةْ ..
وبها تَمورُ وتستعِرْ
واللاجئونَ هم الوقودْ
هم الضحايا بالوكالةْ عن الجميع..
و بأدنى سِعِرْ
وفي أحسنِ الأحوالِ هم الكُرة
مادةٌ للضربٍ والتشتيتِ.. في اتجاهاتٍ كُثُرْ !
........................................
(*) كونفوي: رتل من الشاحنات المحمَّلة بمواد الإغاثة.
....................................................
ـ نُشرت هذه القصيدة فى موقع دنيا الرأى رابط :